Preferred Language
Articles
/
jcoart-939
الحملات العسكرية الآشورية – الدوافع والتداعيات
...Show More Authors

يعد التاريخ الآشوري في بلاد الرافدين من أطولها زمناً، وعليه فقط قسمه الباحثون إلى ثلاث مدد زمنية بدءاً من العصر البابلي القديم، ويمكن اعتبار العام 2006 ق.م سقوط سلالة أور الثالثة بداية الظهور للقوة الآشورية وتبلورها لاحقاً إلى إمبراطورية وصولاً إلى العام 612-605 ق.م نهاية الدور السياسي والعسكري للآشوريين.

خلالها أثبتوا مقدرتهم الإدارية والعسكرية منذ العصر القديم، إذ كانت الحروب توسعية  اقتصرت على بعض التحركات العسكرية، بيد أنه في عصر الملك شمشي أدد الأول كانت الحرب ضد مملكة ماري توسعية وانتقامية فضلاً عن كونها تمثل تدخلاً عسكرياً لصالح إنهاء مملكة ماري أي ضمها.

ومع العصر الوسيط ولحظة خضوع بلاد آشور لمملكة الميتانيين كانت هي الفارق في حياة الآشوريين ونقطة الانطلاق نحو التخلص أولاً من الهيمنة الميتانية والانتقال لمبدأ الهجوم، ولذا أرى أن الحروب الآشورية هي من باب أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم فكانت بداية دوافع الحروب دفاعية ثم تطورت إلى الهجومية والانتقامية أو التأديبية، ويكفي أن يمتنع الملك الخاضع للسلطة الآشورية عن دفع الجزية حتى يكون السبب في مقتله وتدمير مملكته.

إذاً الحرب كانت لها دوافع اقتصادية والسيطرة على طرق التجارة القديمة مع مواقع المناجم لاسيما الحديد والنحاس فضلاً عن التوسع والسيطرة، ولا ننسى الأيدي العاملة. ولتحقيق الأهداف اعتمد الآشوريون على تهيئة جيش قوي ذي تسليح متقدم وقتذاك، لذلك يعد الجيش الآشوري الأقوى عدة وعدد في العالم القديم، وكان للحديد دور متميز في نوعية السلاح المستخدم فضلاً عن التدريب والتنظيم.

ضمن الآشوريون من حروبهم الحصول على الأموال والسلع والهدايا فضلاً عن الأسرى كأيدي عاملة، واتبعوا سياسة الترحيل ضد المدن التي كثيراً ما تثور ضدهم أو التي تمتنع عن دفع الجزية (صورة من صور الاقتصاد الآشوري).

إن ظاهرة التهجير القسري التي اتبعها الآشوريون كان هدفها عدم تكرار محاولات التمرد والتخلص من الحكم الآشوري وسياسات التدمير هدفها اقتصادي سياسي هو حرمان المدن المتمردة من مواردها الاقتصادية، وبالتالي لا تقوى على إعادة المحاولات مرة أخرى. وبخصوص دفع الجزية أو هدايا الولاء فهي باب من أبواب الاقتصاد وإن كان الهدف منها خضوع واعتراف بشرعية الحكم إلا أنها ساهمت في رفد الاقتصاد الآشوري بالسلع والمعادن وهو نوع من أنواع التجارة "نقصد بها الجزية" مع مراعاة الحرب النفسية من خلال تعداد مواد الجزية، وفي ذات الوقت إعلامية لإرهاب الخصوم وكلها مغلفة بمردود ديني وكأنها هبة لإله المدينة آشور وبمباركة منه وبمساعدته قد حقق الملك نصره.

يتضح مما ذكرناه أن دوافع واسباب الحملات العسكرية متعددة ومختلفة منها الدفاعية ومنها التأديبية أو الانتقامية لاسيما التمرد وقطع الجزية أو الامتناع عن تأديتها، فضلاً عن الحروب ضد القبائل للسيطرة على طرق الإمداد والتجارة في المنطقة فضلاً عن التوسع والسلطة وكلها تصب في الجانب الاقتصادي ومنها توفير أيادي عاملة من الأسرى والحرفيين وكذلك المرتزقة للخدمة في صفوف الجيش الآشوري. هذا كله قاد في النهاية إلى ضعف الإمبراطورية الآشورية وتفككها وإنهاك اقتصادها وإصابة أفراد الجيش الآشوري بضغط نفسي سرعان ما أدى إلى انهيارها بعد التحالف الثلاثي الذي جمع الكلديين عن بابل والميديين شرقاً والسيكيثيين (قبائل الشمال) وإلحاق الهزيمة بالآشوريين وإسقاط عاصمتهم نينوى كلها اجتمعت بعد هزيمة آشور في مصر وانسلاخ الأجزاء الغربية عن التبعية الاشورية فكانت عاملاً حاسماً في الهزيمة والسقوط.

إن أبرز تداعيات الحملات المتكررة إضعاف الاقتصاد والإمكانيات المادية فضلاً عن تدمير المدن وإحراقها وإفراغها من سكانها وإمكانياتها (الغنائم) أدى إلى زيادة الشعور النفسي بالظلم، وهذا ما يفسر كثرة الثورات والتمردات فضلاً عن التحريض سواء من مصر القديمة أم من مملكة عيلام أم مملكة أورارتو.

لقد اتبع الآشوريون سياسة التهجير والتدمير (سياسة الأرض المحروقة)، وهذا قاد إلى ظهور أقليات في نسيج المجتمع الآشوري، ومع اختلاف الثقافات والأديان أو المعتقدات قاد في أحيان إلى تمازج واندماج لاحظناه في الفن الآشوري على سبيل المثال ونعني الحيوانات المجنحة والإنسان المجنح وإن كان التجنيح قد ظهر أواخر العصر البابلي القديم، إلا أننا نرجح تأثر الفنان الآشوري بالمعتقدات السائدة من الأقوام التي كانت تقطن بلاد الشام.

في ذات الوقت لا نستبعد أن تكون للأقليات الحالية جذور تاريخية تعود إلى زمن الحقبة الآشورية، ولها امتداد تاريخي متأصل.

وعلى أية حال قادت الحملات إلى تدمير المدن والممالك مع إفراغها اقتصادياً ومادياً وزيادة النقمة الاجتماعية، وهذا هو سبب كثرة الثورات واتحاد الخصوم أو الأعداء في جبهة واحدة للتخلص من عدوهم المشترك، وهو ما حصل فعلاً في إسقاط نينوى وفق أساس القاعدة "عدو عدوي صديقي".

ومع ازدياد الثراء الآشوري ازداد الفقر في الجانب الآخر المقابل، ومع الفقر تزداد المعاناة وهو الذي يولد الكراهية ويعمل كالنار في الهشيم فتتولد الثورات والانتفاضات التي تقود إلى الحروب والدمار والانتقام.

تفككت الإمبراطورية الآشورية بعد ضياع مصر التي سرعان ما استعادت نشاطها الدبلوماسي في عهد بسماتيك الأول مؤسس السرة 26 وتحالفه مع الإغريق والليديين ضد الآشوريين واستعادة بلاد الشام مع نمو المملكة الكلدية في بابل وقوة القبائل السيكيثية والسميرية في الأناضول وقوة المملكة الميدية كلها عوامل قادت إلى الانهيار المتوقع عام 612 ق.م.

وبذلك فمعادلة كثرة الحملات والحروب تقود إلى ضعف الاقتصاد وانهياره يؤدي إلى السقوط والفقر وضعف المجتمع.

View Publication Preview PDF
Quick Preview PDF